Thursday, December 15, 2016

الانسان الصرصار فيودور دوستويفسكي Fyodor Dostoyevsky

كانت كل فترة من هذه الفترات التي أقضيها موزع الذات تنتهي بمرضي. كانت تنتهي دائماً بلومي لنفسي – وقد
حاولت أن أتخلص من ذلك اللوم لأنني كنت أشعر بالمرض، بيد أنني اعتدت ذلك تدريجياً. لقد اعتدت كل شيء،
أو أنني استسلمت طائعاً لأتخلص من لوم نفسي، لأنه لم يكن في استطاعتي أن أفكر في كل ذلك، وكانت وسيلتي
في الخلاص أن أحب الأشياء – كانت تتمثل في لجوئي إلى" كل ما هو خير وجميل" في الأحلام طبعاً. وقد كنت
حالماً إلى درجة كبيرة، إذ كنت أغرق في كل حلم ثلاثة أشهر، وأنطوي على نفسي في زاويتي، وقد لا تصدقونني
إذا قلت أنني كنت في تلك الأحيان لا أشبه الرجل الذي دفعه قلقه وجبنه إلى أن يضع ياقة ألمانية على سترته.
لقد أصبحت فجأة بطلاً. ولم أكن في تلك الأيام لأتذكر وجه ذلك الملازم الذي يبلغ طوله ستة أقدام، لم أكن لأتذكر
وجهه حتى لو جاء لزيارتي شخصياً .لم يكن في وسعي أن أتذكر شيئاً من ملامحه. أما ما هي أحلامي وكيف كان
في وسعي أن أقنع بها – فهذا أمر يصعب عل  ي إيضاحه الآن، كل ما أعرفه هو أنني كنت قانعاً بتلك الأحلام. بل
إنني قانع بها حتى الآن إلى حد ما. كانت أحلامي عذبة جميلة جلية بعد كل فترة من فترات التشتت والتسيب،
وكانت تلك الأحلام ممزوجة باللوم والدموع واللعنات . كانت تمر بي لحظات أشعر فيها بالنشوة والسعادة، ولم
أحس خلالها بأية سخرية من نفسي، قسماً بشرفي! كان لي إيمان وألم وحب.
وكانت المشكلة معي أنني كنت في تلك الأيام أؤمن إيماناً أعمى بأن معجزة ما، أو حادثة خارجية ستحدث، وأن
هذا كله سيتلاشى، وأنني سأعثر يوماً على فعالية مناسبة، على شيء نبيل جميل، شيء جاهز تماماً (ولم أكن
أعرف نوع هذه الفعالية. كل ما كنت أعرفه عنها هو أنها يجب أن تكون جاهزة)، وحينذاك يمكنني أن أظهر في
ضوء النهار، راكبا على حصان أبيض، والغار يكلل جبيني. بل لم يكن في وسعي أن أتصور لنفسي منزلة من
الدرجة الثانية، ولهذا السبب نفسه قنعت في حياتي العملية بأقل منزلة ممكنة. أما أن أكون بطلاً أو أن أكون
القذارة بعينها – ليس هنالك حل وسط. ولكن ذلك أدى إلى دماري، إذ بينما كنت غارقاً في القذارة، كنت أعزي
نفسي بأنني كنت بطلاً في أحيان أخرى، وهكذا كان البطل بغطي على القذارة: وكأن الانسان الفاني العادي كان
يخجل من الاغراق في القذارة ، أما البطل فقد كان اسمى من أن يغرق فيها، ولهذا كنت أغوص في تلك القذارة
بضمير مرتاح.
ويجدر بي أن أشير إلى أن هذه النوبات التي كنت أشعر فيها "بالنبل والجمال" كانت تنتابني حتى في الفترات التي
كانت تعتريني فيه أشد حالات الكآبة، بل كانت تنتابني حتى حين أكون قد وصلت إلى القعر، إلى القعر تماماً.
وكانت تنتابني فجأة ، على شكل انفجارات متباعدة، وكانت تذكرني بنفسها بين الحين والحين، ولكن ظهورها لم
يكن لينهي انحطاطي، وإنما ، بالعكس، كان ظهورها وتناقضها مع انحطاطي يزيدان من حدته، وكانت تلك
النوبات تنتهي حين تكون قد فعلت ما يمكن أن يفعله مشه ممتاز من مشهيات الطعام. وفي هذه الحالة كان المشهي
يتألف من مجموعة من المتناقضات والعذاب، من النقد الذاتي المؤلم، وكانت تلك الغصص والأوجاع كلها تضفي
شيئاً من الاثارة بل المعنى على كآبتي الكريهة – كانت كلها، باختصار، تفعل تماماً ما يفعله مشه ممتاز من
مشهيات الطعام. وكان في ذلك كله شيء من العمق أيضاً، وإلا فإنني لم أكن لأقنع بإغراق نفسي في انحطاط من
ذلك النوع التافه المباشر الوضيع الذي قد يغرق فيه أي كاتب آخر في دائرة متواضعة . لم يكن ذلك النوع ليقنعني
بقبول القذارة، فما الذي كان يدفعني إذن إلى أن أخرج إلى الشارع ليلاً ؟ كلا أيها السادة، لقد كنت أجد جانباً نبيلاً
في كل شيء...
وكم كان ذلك الحب واسعاً، يا إلهي، كم كان دفاقاً ذلك الحب الذي كنت أنهل منه في تلك الأحلام !وفي تلك
الساعات التي كنت أجد فيها "الخلاص خلال استمتاعي بكل ما هو نبيل وجميل"، وبالرغم من أن ذلك النوع من
الحب كان خيالياً، وبالرغم من أنه لم تكن له أية صلة حقيقية بأي شيء من خصائص البشر، إلا أن ذلك الحب
كان يتدفق، كان يتدفق بحيث لا يعود المرء يشعر بحاجة إلى ممارسته بالفعل بعد ذلك، ولو حدث ذلك لكان تزفاً
لا داعي له.
وكان كل شيء ينتهي دائماً نهاية مرضية، كان ينتهي إلى تحول كسول ذاهل نحو الفن ، أو نحو أشكال الوجود
الجديدة، ويلوح كل شيء جاهزاً، منتزعاً انتزاعاً من الشعراء وكتاب القصة، ومعداً إعداداً يجعله مناسباً لكل حاجة
محتملة. لقد كنت أشعر مثلاً بأنني انتصرت على كل شيء، وأن كل شيء كان يستلقي في التراب تحت قدمي،
وأن الجميع صاروا يعترفون اعترافاً كاملاً صادراً عن إرادتهم الحرة بكمالي، ولهذا كنت اغتفر للجميع وكنت
أسامحهم. كنت أجد نفسي شاعراً شهيداً، أو مستشاراً في البلاط، وكنت أحب، وأصبح مليونيراً عظيماً، وأخصص
كل ثروتي لتحسين أحوال البشر، ثم اعترف بعد ذلك بكل جرائمي الشريرة أمام جميع الناس، ولا حاجة بي إلى
القول بأن جرائمي لم تكن مخجلة شريرة بالفعل، وإنما كان فيها شيء من "النبل والجمال" ، شيء من طراز
مانفريد، وينتحب الجميع، ويقبلونني (أي حمقى هم إن لم يفعلوا ذلك!)، بل إنني لأنطلق عاري القدمين جائعاً،
مبشراً بأفكار جديدة، أو مهدداً الرجعيين بواترلو جديدة، ويحدث بعد ذلك أن تعزف الفرقة الموسيقية مسيرة،
ويصدر عفو عام، ويوافق البابا على مغادرة روما إلى البرازيل، ثم تقام حفلة لايطاليا كلها في فيللا بورغيس على
ضفاف بحيرة كومو، تلك البحيرة التي يتم نقلها إلى مكان قريب من روما لهذا الغرض، ثم يتبع ذلك مشهد بين
الشجيرات.. وهكذا – ولا تقولوا أنكم لا تعرفون ذلك. ستقولون أن القيام بذلك وسط الجمهور هو أمر عادي
حقير، بعد كل تلك الدموع والتبدلات التي طرأت علي والتي اعترفت بها منذ قليل، ولكن لماذا تعتبرون ذلك أمراً
حقيراً؟ وهل تعتبرون أنني أخجل من ذلك كله؟ وهل تعتقدون بأن ذلك كان أشد تفاهة من أي شيء في حياتكم أيها
السادة؟ دعوني إذن أؤكد لكم أنني لم أفعل عدداً معيناً من تلك الأمور الشريرة.. ولم يحدث ذلك كله على ضفاف
بحيرة كومو فقط، بالرغم من أنكم على صواب من الناحية الأخرى، لأنه في الواقع أمر حقير، أما الأحقر من ذلك
فهو أنني أحاول الآن أن أدافع عن نفسي أمامكم. لنكتف بذلك، وإلا فإنه لن ينتهي، وإنما ستزيد الأمور حقارة.
لم يكن في وسعي أن أقضي أكثر من ثلاثة أشهر في تلك الأحلام دون أن أشعر بميل للانغمار في الحياة
الاجتماعية، وكان الانغمار في الحياة الاجتماعية يعني بالنسبة لي زيارة أقوم بها لانطون انطونوفيتش سيتوشكين،
رئيس الشعبة التي أعمل بها، وكان الانسان الوحيد الذي عرفته طيلة حياتي، وليس في وسعي إلا أن أندهش من
ذلك حتى الآن . بيد أنني كنت أزوره حين كنت أجد نفسي في مزاج طيب فقط، حين تكون أحلامي قد بلغت ذروة
السعادة، لأنني كنت أشعر آنذاك برغبة ملحة لا تقاوم في أن أعانق جميع زملائي، بل البشر كلهم . ولكن ليفعل
المرء ذلك عليه أن يجد شخصاً واحداً موجوداً بالفعل . ولم يكن في استطاعة أحد أن يزور انطون انطونوفيتش
إلا في ايام الثلاثاء (كان الثلاثاء هو اليوم المخصص لاستقبال الزائرين في بيت انطون)، ولهذا كان علي أن أضع
نفسي في ذلك المزاج الذي كان يحبب لي البشرية كلها في أيام الثلاثاء. وكان انطون انطونوفيتش سيتوشكين
يعيش في الطابق الرابع من عمارة "الزوايا الخمس"، وكان يشغل أربع غرف منخفضة السقوف، الواحدة أصغر
الأخرى، وكانت غرفاً كئيبة جرداء، وكانت تعيش معه ابنتاه وعمتهما التي كانت تصب الشاي دائماً. كانت
احداهما في السادسة عشرة والاخرى في الرابعة عشرة من العمر، وكان لكل واحدة منهما أنف أفطس.
وقد اعتادتا أن تسببا لي حرجاً شديداً لأنهما كانتا تتهامسان دائماً وتتضاحكان سراً. أما رب الأسرة فقد كان يقضي
وقته في مكتبه، جالساً على أريكة جلدية موضوعة أمام مكتبه، وكان يجلس معه زائر أشيب يعمل موظفاً في
شعبتنا، وكان يحضر لزيارته موظفون من الشُعب الأخرى في بعض الأحيان أيضاً. ولكنني لم أجد لديه يوماً أكثر
من شخصين أو ثلاثة أشخاص في وقت واحد، وكانوا جميعاً من طراز واحد، وكان الحديث المعتاد يدور على
الضرائب والرسوم ومجلس الشيوخ والرواتب والترقيات وصاحب السعادة والأمور التي ترضيه.. الخ، الخ،
وكنت أجلس ساعات طويلة كالمغفل صابراً على حديثهم مستمعاً إليهم دون أن أجرؤ على قول شيء، بل دون أن
أعرف ما في وسعي أن أقوله.وكنت أشعر بالضيق شيئاً فشيئاً، لأنني كنت أعود إلى البيت على الأقل وأقرر أن
أتخلى عن فكرة معانقة البشر.
كان لي أيضاً صديق آخر اسمه سيمونوف، وكنت أعرفه من عهد الدراسة. كنت أعرف الكثيرين من زملائي في
الدراسة في بطرسبرج، إلا أنني لم أكن أتصل بهم، بل لم أكن أحييهم حين كنت أقابلهم في الشارع. ولعل السبب
الذي دعا إلى نقلي من شعبة إلى أخرى هو أنني لم أكن أميل إلى أن يكون لي شأن مع هؤلاء الزملاء. لقد أردت
أن أبتعد عن كل ما كان يذكرني بسنوات طفولتي الكريهة إلى نفسي. لتذهب تلك المدرسة وسنوات العبودية اللعينة
إلى الجحيم! ولقد قطعت كل علاقاتي بزملاء الدراسة حالما دخلت معترك الحياة، ومع ذلك فقد ظللت أتبادل
التحيات مع اثنين أو ثلاثة منهم في الشارع.
كان سيمونوف أحد هؤلاء، وكان في أيام الدراسة طفلاً هادئاً دمث الخلق، ولكنه لم يكن لامعاً، إلا أنني اكتشفت
فيه شيئاً من استقلال الشخصية بل الأمانة. ولست أظن أنه كان غبياً، لم يكن غبياً جداً على أي حال. وقد قضينا
أوقات ممتعة معاً، ولكنها لم تدم طويلاً، وإنما تلاشت بسرعة. وبدأت أشعر بأنه لم يكن ميالاً إلى تذكري في تلك
الأيام، وبأنه كان يخشى أن أعود إلى تكرار النغمة ذاتها معه. بل كنت أتصور أنه كان يكره رؤيتي، ولكنني لم
أكن متأكداً من ذلك، ولهذا ظللت أزوره، ووجدت نفسي في أحد أيام الخميس غير قادر على احتمال الوحدة، ولما
كنت أعرف أن أنطون انطونوفيتش يغلق أبوابه في أيام الخميس، فقد فكرت في سيمونوف.
وبينما كنت أرتقي السلالم صاعداً إلى الطابق الرابع، لم يكن في وسعي أن أكف عن التفكير في أنه قد يكون
ضجراً مني كارهاً لرؤيتي، وعن التفكير في أنني قد أضيع وقته بذهابي لزيارته. بيد أن مثل هذه الأفكار كانت
تزيدني رغبة في أن أضع نفسي في منزلة واحدة مع الآخرين، ولهذا فقد دخلت عليه، بعد أن كان قد مر عام
كامل على زيارتي الأخيرة له.

No comments:

Post a Comment

Immortality

“Imagine immortality, where even a marriage of fifty years would feel like a one-night stand. Imagine seeing trends and fashions blur p...